فصل: تفسير الآية رقم (265):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (265):

قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما فرغ من مثل العاري عن الشرط ضرب للمقترن بالشرط من الإنفاق مثلًا منبهًا فيه على أن غيره ليس مبتغى به وجه الله فقال: {ومثل} قال الحرالي: عطفًا على {الذي ينفق ماله رئاء الناس} {ولا يؤمن بالله واليوم الآخر} عطف مقابلة وعلى {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [البقرة: 261] عطف مناسبة- انتهى.
{الذين ينفقون أموالهم} أي مثل نفقاتهم لغير علة دنياوية ولا شائبة نفسانية بل {ابتغاء مرضات الله} أي الذي له الجلال والإكرام فلذلك صلح كل الصلاح فعري عن المن والأذى وعيرهما من الشوائب الموجبة للخلل قال الحرالي: والمرضاة مفعلة لتكرر الرضى ودوامه- انتهى.
{وتثبيتًا من أنفسهم} بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم والصفح والصبر على جميع مشاق التكاليف فإن من راض نفسه بحملها على بذل المال الذي هو شقيق الروح وذلت له خاضعة وقل طمعها في اتباعه لشهواتها فسهل عليه حملها على سائر العبادات، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طمعًا في اتباع الشهوات ولزوم الدناءات، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قولهم: لين من عطفه وحرك من نشاطه {كمثل جنة} أي بستان ومثل صاحبها.
قال الحرالي: ولما كان حرث الدنيا حبًا وثمرًا جعل نفقات الأخرى كذلك حبًا وتمرًا.
فمن أنفق في السبيل جعل مثله كالحب، ومن أنفق ابتغاء لمرضاة الله جعل مثله كالجنة التي لها أصل ثابت تدور عليها الثمرات وهي ثابتة وتستغني من الماء بما لا يستغني به الحرث لأن الحرث مستجد في كل وقت، كما أن الجهاد واقع عند الحاجة إليه والمنفق ابتغاء مرضاة الله ينفق في كل وجه دائم الإنفاق، فكان مثله مثل الجنة الدائمة ليتطابق المثلان بالممثولين، فعمت هذه النفقة جهات الإنفاق كلها في جميع سبل الخير- انتهى.
{بربوة} أي مكان عال ليس بجبل.
قال الحرالي: في إعلامه أن خير الجنات ما كان في الربوة لتنالها الشمس وتخترقها الرياح اللواقح، فأما ما كان من الجنان في الوهاد تجاوزتها الرياح اللواقح من فوقها فضعفت حياتها، لأن الرياح هي حياة النبات الريح من نفس الرحمن انتهى.
ثم وصفها بقوله: {أصابها وابل} أي مطر كثير {فأتت أكلها} أي أخرجته بإذن الله سبحانه وتعالى حتى صار في قوة المعطي {ضعفين} أي مثل ما كانت تخرجه لو أصابها دون الوابل- كذا قالوا: مثلين، والظاهر أن المراد أربعة أمثاله، لأن المراد بالضعف قدر الشيء ومثله معه فيكون الضعفان أربعة- والله سبحانه وتعالى أعلم؛ والآية من الاحتباك، ذكر المنفق أولًا دال على حذف صاحب الجنة ثانيًا، وذكر الجنة ثانيًا دال على حذف النفقة أولًا.
ولما كان الوابل قد لا يوجد قال: {فإن لم يصبها وابل فطل} أي فيصيبها لعلوها طل، وهو الندى الذي ينزل في الضباب.
وقال الحرالي: الطل سن من أسنان المطر خفي لا يدركه الحس حتى يجتمع، فإن المطر ينزل خفيًا عن الحس وهو الطل، ثم يبدو بلطافة وهو الطش، ثم يقوى وهو الرش، ثم يتزايد ويتصل وهو الهطل، ثم يكثر ويتقارب وهو الوابل، ثم يعظم سكبه وهو الجود؛ فله أسنان مما لا يناله الحس للطافته إلى ما لا يحمله الحس كثرة- انتهى.
والمعنى أن أهل هذا الصنف لا يتطرق إلى أعمالهم فساد، غايتها أن يطرقها النقص باعتبار ضعف النيات، ولذلك كان التقدير تسبيبًا عن ذلك: فالله بما تستحقون على نياتكم عليم، فعطف عليه قوله: {والله} أي المحيط علمًا وقدرة {بما تعملون} أي بما ظهر منه {بصير} كما هو كذلك بما بطن، فاجتهدوا في إحسان الظاهر والباطن.
وقدم مثل العاري عن الشرط عليه لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون مانًا ومؤذيًا ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك، وهو هذه الآية، وبيّن تعالى أن غرض هؤلاء المنفقين من هذا الإنفاق أمران أحدهما: طلب مرضاة الله تعالى، والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت، وسواء قولك: بغيت وابتغيت.
والغرض الثاني: هو تثبيت النفس، وفيه وجوه أحدها: أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها، ومن جملة ذلك ترك إتباعها بالمن والأذى، وهذا قول القاضي وثانيها: وتثبيتًا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد {وَتَثْبِيتًا مّنْ بَعْضُ أَنفُسِهِمْ}.
وثالثها: أن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية، إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة، ومعشوقها أمران: الحياة العاجلة والمال، فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه، وإذا كلفت ببذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت، فلهذا دخل فيه {مِنْ} التي هي التبعيض، والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معًا فهو الذي ثبتها كلها، وهو المراد من قوله: {وتجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11] وهذا الوجه ذكره صاحب الكشاف، وهو كلام حسن وتفسير لطيف ورابعها: وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع: أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله على ما قال: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي، إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية، ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9] ووصف إنفاق أبي بكر فقال: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} [الليل: 19، 20، 21] فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحض.
فهناك اطمأن قلبه، واستقرت نفسه، ولم يحصل لنفسه منازعه مع قلبه، ولهذا قال أولًا في هذا الإنفاق إنه لطلب مراضاة الله، ثم أتبع ذلك بقوله: {وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ} وخامسها: أنه ثبت في العلوم العقلية، أن تكرير الأفعال سبب لحصول الملكات.
إذا عرفت هذا فنقول: إن من يواظب على الإنفاق مرة بعد أخرى لابتغاء مرضاة الله حصل له من تلك المواظبة أمران أحدهما: حصول هذا المعنى والثاني: صيرورة هذا الابتغاء والطلب ملكة مستقرة في النفس، حتى يصير القلب بحيث لو صدر عنه فعل على سبيل الغفلة والاتفاق رجع القلب في الحال إلى جناب القدس، وذلك بسبب أن تلك العبادة صارت كالعادة والخلق للروح، فإتيان العبد بالطاعة لله، ولابتغاء مرضاة الله، يفيد هذه الملكة المستقرة، التي وقع التعبير عنها في القرآن بتثبيت النفس، وهو المراد أيضًا بقوله: {يُثَبّتُ الله الذين آمَنُواْ} وعند حصول هذا التثبيت تصير الروح في هذا العالم من جوهر الملائكة الروحانية والجواهر القدسية، فصار العبد كما قاله بعض المحققين: غائبًا حاضرًا، ظاعنًا مقيمًا وسادسها: قال الزجاج: المراد من التثبيت أنهم ينفقونها جازمين بأن الله تعالى لا يضيع عملهم، ولا يخيب رجاؤهم، لأنها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق، فإنه إذا أنفق عد ذلك الإنفاق ضائعًا، لأنه لا يؤمن بالثواب، فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت وسابعها: قال الحسن ومجاهد وعطاء: المراد أن المنفق يتثبت في إعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف، قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإذا كان لله أعطى، وإن خالطه أمسك، قال الواحدي: وإنما جاز أن يكون التثبيت، بمعنى التثبيت، لأنهم ثبتوا أنفسهم في طلب المستحق، وصرف المال في وجهه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مَثَل الذي ينفق ماله رئاء الناس، لزيادة بيان ما بين المرتبتين مِن البَوْن وتأكيدًا للثناء على المنفقين بإخلاص، وتفنّنًا في التمثيل.
فإنّه قد مثَّله فيما سلف بحبَّة أنبتت سبع سنابل، ومثّله فيما سلف تمثيلًا غير كثيرِ التركيب لتحصل السرعة بتخيّل مضاعفة الثواب، فلما مَثَّل حال المنفق رِئاءً بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيُّل؛ فإنّ الأمثال تبهج السامع كلّما كانت أكثر تركيبًا وضمّنت الهيأة المشبّه بها أحوالًا حسنة تكسبها حُسنًا ليسري ذلك التحسين إلى المشبَّه، وهذا من جملة مقاصد التشبيه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال أبو حيان:

قال الزمخشري: فإن قلت: فما معنى التبعيض؟
قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معًا فهو الذي ثبتها كلها {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} انتهى.
والظاهر أن نفسه هي التي تثبته وتحمله على الإنفاق في سبيل الله، ليس له محرك إلاَّ هي، لما اعتقدته من الإيمان وجزيل الثواب، فهي الباعثة له على ذلك، والمثبتة له بحسن إيمانها وجليل اعتقادها. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن المفسرين قالوا: البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعًا.
ولي فيه إشكال: وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء ولا ترتفع إليه أنهار وتضربه الرياح كثيرًا فلا يحسن ريعه، وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار، ولا يصل إليه إثارة الرياح فلا يحسن أيضًا ريعه، فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة، فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه، بل المراد منه كون الأرض طينًا حرًا، بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما، فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ريعها، وتكمل الأشجار فيها، وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين أحدهما: قوله تعالى: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5] والمراد من ربوها ما ذكرنا فكذا هاهنا والثاني: أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول، ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر، ولا يربو، ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو وتنمو، فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده. اهـ.